كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقرأ الجمهور: {سبإٍ} بالصرف.
وابن كثير وأبو عمرو {سَبَأَ} بفتح الهمزة وترك الصرف؛ فالأوّل على أنه اسم رجل نسب إليه قوم، وعليه قول الشاعر:
الواردون وتيم في ذُرَى سبإٍ ** قد عَضّ أعناقَهُمْ جلدُ الجواميسِ

وأنكر الزجاج أن يكون اسم رجل، وقال: {سبأ} اسم مدينة تعرف بمأرب باليمن بينها وبين صنعاء مسيرة ثلاثة أيام؛ وأنشد للنابغة الجعدي:
من سَبَأَ الحاضِرين مَأرِبَ إذْ ** يَبْنُون من دون سَيْلِهِ العَرِمَا

قال: فمن لم يصرف قال إنه اسم مدينة، ومن صرف وهو الأكثر فلأنه اسم البلد فيكون مذكرًا سمي به مذكر.
وقيل: اسم امرأة سميت بها المدينة.
والصحيح أنه اسم رجل، كذلك في كتاب الترمذي من حديث فروة بن مُسَيْكٍ المرادي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: وسيأتي إن شاء الله تعالى.
قال ابن عطية: وخفي هذا الحديث على الزجاج فخبط عشواء.
وزعم الفرّاء أن الرُّؤاسيّ سأل أبا عمرو بن العلاء عن سبإ فقال: ما أدري ما هو.
قال النحاس: وتأوّل الفرّاء على أبي عمرو أنه منعه من الصرف لأنه مجهول، وأنه إذا لم يعرف الشيء لم ينصرف.
وقال النحاس: وأبو عمرو أجلُّ من أن يقول مثل هذا، وليس في حكاية الرُّؤاسي عنه دليل أنه إنما منعه من الصرف لأنه لم يعرفه، وإنما قال لا أعرفه، ولو سئل نحويّ عن اسم فقال لا أعرفه لم يكن في هذا دليل على أنه يمنعه من الصرف، بل الحق على غير هذا؛ والواجب إذا لم يعرفه أن يصرفه؛ لأن أصل الأسماء الصرف؛ وإنما يمنع الشيء من الصرف لعلة داخلة عليه؛ فالأصل ثابت بيقين فلا يزول بما لا يعرف.
وذكر كلامًا كثيرًا عن النحاة وقال في آخره: والقول في {سبإ} ما جاء التوقيف فيه أنه في الأصل اسم رجل، فإن صرفته فلأنه قد صار اسمًا للحيّ، وإن لم تصرفه جعلته اسمًا للقبيلة مثل ثمود إلا أن الاختيار عند سيبويه الصرف وحجته في ذلك قاطعة؛ لأن هذا الاسم لما كان يقع له التذكير والتأنيث كان التذكير أولى؛ لأنه الأصل والأخف.
الثامنة: وفي الآية دليل على أن الصغير يقول للكبير والمتعلم للعالم عندي ما ليس عندك إذا تحقّق ذلك وتيقنه.
هذا عمر بن الخطاب مع جلالته رضي الله عنه وعلمه لم يكن عنده علم بالاستئذان.
وكان علم التيمّم عند عمّار وغيره، وغاب عن عمر وابن مسعود حتى قالا: لا يتيمم الجنب.
وكان حكم الإذن في أن تنفر الحائض عند ابن عباس ولم يعلمه عمر ولا زيد بن ثابت.
وكان غسل رأس المحرم معلومًا عند ابن عباس وخفي عن المِسْوَر بن مَخْرَمة.
ومثله كثير فلا يطوّل به.
التاسعة: قوله تعالى: {إِنِّي وَجَدتُّ امرأة تَمْلِكُهُمْ} لما قال الهدهد: {جِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} قال سليمان: وما ذلك الخبر؟ قال: {إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ} يعني بلقيس بنت شراحيل تملك أهل سبإ.
ويقال: كيف خفي على سليمان مكانها وكانت المسافة بين محطِّهِ وبين بلدها قريبة، وهي من مسيرة ثلاث بين صنعاء ومأرب؟ والجواب أن الله تعالى أخفى ذلك عنه لمصلحة، كما أخفى على يعقوب مكان يوسف.
ويروى أن أحد أبويها كان من الجن.
قال ابن العربي: وهذا أمر تنكره الملحِدة، ويقولون: الجن لا يأكلون ولا يلدون؛ كذبوا لعنهم الله أجمعين؛ ذلك صحيح ونكاحهم جائز عقلًا فإن صح نقلًا فبها ونعمت.
قلت: خرج أبو داود من حديث عبد الله بن مسعود أنه قال: قدم وفد من الجن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا محمد انْهَ أمتك أن يستنجوا بعَظْم أو رَوْثة أو جمجمة فإن الله جاعل لنا فيها رزقًا.
وفي صحيح مسلم: فقال: «لكم كل عَظْم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحمًا وكل بعرة علف لدوابكم» فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فلا تستنجوا بهما فإنهما طعام إخوانكم الجن» وفي البخاري من حديث أبي هريرة قال: فقلت: ما بال العَظْم والرّوثة؟ فقال: «هما من طعام الجن وإنه أتاني وفدُ جِنِّ نِصيبِين ونِعْم الجِنُّ فسألوني الزاد فدعوت الله تعالى ألا يمروا بعظم ولا رَوْثة إلا وجدوا عليها طعامًا» وهذا كله نص في أنهم يطعمون.
وأما نكاحهم فقد تقدّمت الإشارة إليه في {سبحان} عند قوله: {وَشَارِكْهُمْ فِي الأموال والأولاد} [الإسراء: 64].
وروى وهيب بن جرير بن حازم عن الخليل بن أحمد عن عثمان بن حاضر قال: كانت أم بلقيس من الجنّ يقال لها بلعمة بنت شيصان.
وسيأتي لهذا مزيد بيان إن شاء الله تعالى.
العاشرة: روى البخاريّ من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بلغه أن أهل فارس قد ملّكوا بنت كسرى قال: «لن يُفلح قوم وَلَّوا أمرَهم امرأة» قال القاضي أبو بكر بن العربي: هذا نص في أن المرأة لا تكون خليفة ولا خلاف فيه؛ ونقل عن محمد بن جرير الطبري أنه يجوز أن تكون المرأة قاضية، ولم يصح ذلك عنه، ولعله نقل عنه كما نقل عن أبي حنيفة أنها إنما تقضي فيما تشهد فيه وليس بأن تكون قاضية على الإطلاق؛ ولا بأن يكتب لها مسطور بأن فلانة مقدّمة على الحكم، وإنما سبيل ذلك التحكيم والاستنابة في القضية الواحدة، وهذا هو الظن بأبي حنيفة وابن جرير.
وقد روي عن عمر أنه قدّم امرأة على حِسبة السوق.
ولم يصح فلا تلتفتوا إليه، فإنما هو من دسائس المبتدعة في الأحاديث.
وقد تناظر في هذه المسألة القاضي أبو بكر بن الطيب المالكي الأشعري مع أبي الفرج بن طَرَار شيخ الشافعية، فقال أبو الفرج: الدليل على أن المرأة يجوز أن تحكم أن الغرض من الأحكام تنفيذ القاضي لها، وسماع البينة عليها، والفصل بين الخصوم فيها، وذلك ممكن من المرأة كإمكانه من الرجل.
فاعترض عليه القاضي أبو بكر ونقض كلامه بالإمامة الكبرى؛ فإن الغرض منه حفظ الثغور، وتدبير الأمور وحماية البَيْضة، وقبض الخراج ورده على مستحقه، وذلك لا يتأتى من المرأة كتأتيه من الرجل.
قال ابن العربي: وليس كلام الشيخين في هذه المسألة بشيء؛ فإن المرأة لا يتأتى منها أن تبرز إلى المجلس، ولا تخالط الرجال، ولا تفاوضهم مفاوضة النظير للنظير؛ لأنها إن كانت فتاة حرم النظر إليه وكلامها، وإن كانت بَرْزَة لم يجمعها والرجال مجلس واحد تزدحم فيه معهم، وتكون مناظرة لهم؛ ولن يفلح قطّ من تصور هذا ولا من اعتقده.
الحادية عشرة: قوله تعالى: {وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ} مبالغة؛ أي مما تحتاجه المملكة.
وقيل: المعنى أوتيت من كل شيء في زمانها شيئًا فحذف المفعول؛ لأن الكلام دلّ عليه.
{وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} أي سرير؛ ووصفه بالعظم في الهيئة ورتبة السلطان.
قيل: كان من ذهب تجلس عليه.
وقيل: العرش هنا الملك؛ والأوّل أصح؛ لقوله تعالى: {أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا} [النمل: 38].
الزمخشري: فإن قلت كيف سوّى الهدهد بين عرش بلقيس وعرش الله في الوصف بالعظيم؟ قلت: بين الوصفين بون عظيم؛ لأن وصف عرشها بالعظيم تعظيم له بالإضافة إلى عروش أبناء جنسها من الملوك، ووصف عرش الله بالعظيم تعظيم له بالنسبة إلى ما خلق من السموات والأرض.
قال ابن عباس: كان طول عرشها ثمانين ذراعًا، وعرضه أربعين ذراعًا، وارتفاعه في السماء ثلاثين ذراعًا، مكلل بالدر والياقوت الأحمر، والزبرجد الأخضر.
قتادة: وقوائمه لؤلؤ وجوهر، وكان مُستَّرًا بالديباج والحرير، عليه سبعة مغاليق.
مقاتل: كان ثمانين ذراعًا، وارتفاعه من الأرض ثمانون ذراعًا، وهو مكلل بالجواهر.
ابن إسحاق: وكان يخدمها النساء، وكان معها لخدمتها ستمائة امرأة.
قال ابن عطية: واللازم من الآية أنها امرأة ملكت على مدائن اليمن، ذات ملك عظيم، وسرير عظيم، وكانت كافرة من قوم كفار.
الثانية عشرة: قوله تعالى: {وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ الله} قيل: كانت هذه الأمة ممن يعبد الشمس؛ لأنهم كانوا زنادقة فيما يروى.
وقيل: كانوا مجوسًا يعبدون الأنوار.
وروي عن نافع أن الوقف على {عرش}.
قال المهدوي: فعظيم على هذا متعلق بما بعده، وكان ينبغي على هذا أن يكون عظيم أن وجدتها؛ أي وجودي إياها كافرة.
قال ابن الأنباري: {وَلهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} وقف حسن، ولا يجوز أن يقف على {عرش} ويبتدىء {عَظِيمٌ وَجَدْتُهَا} إلا على من فتح؛ لأن عظيمًا نعت لعرش فلو كان متعلقًا بوجدتها لقلت عظيمة وجدتها؛ وهذا محال من كل وجه.
وقد حدّثني أبو بكر محمد بن الحسين بن شهريار، قال: حدّثنا أبو عبد الله الحسين بن الأسود العِجليّ، عن بعض أهل العلم أنه قال: الوقف على {عرش} والابتداء {عظيم} على معنى عظيم عبادتهم الشمس والقمر.
قال: وقد سمعت من يؤيد هذا المذهب، ويحتج بأن عرشها أحقر وأدق شأنًا من أن يصفه الله بالعظيم.
قال ابن الأنباري: والاختيار عندي ما ذكرته أوّلًا؛ لأنه ليس على إضمار عبادة الشمس والقمر دليل.
وغير منكر أن يصف الهدهد عرشها بالعظيم إذ رآه متناهي الطول والعرض؛ وجريه على إعراب {عرش} دليل على أنه نعته.
{وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أَعْمَالَهُمْ} أي ما هم فيه من الكفر.
{فَصَدَّهُمْ عَنِ السبيل} أي عن طريق التوحيد.
وبيّن بهذا أن ما ليس بسبيل التوحيد فليس بسبيل ينتفع به على التحقيق.
{فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ} إلى الله وتوحيده.
الثالثة عشرة: قوله تعالى: {أَلاَّ يَسْجُدُواْ للَّهِ} قرأ أبو عمرو ونافع وعاصم وحمزة: {أَلاَّ يَسْجُدُواْ للَّهِ} بتشديد {أَلاَ} قال ابن الأنباري: {فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ} غير تام لمن شدّد {أَلاَّ} لأن المعنى: وزين لهم الشيطان ألا يسجدوا.
قال النحاس: هي {أن} دخلت عليها {لا} و{أن} في موضع نصب؛ قال الأخفش: ب {زين} أي وزين لهم لئلا يسجدوا لله.
وقال الكسائي: ب {فصدّهم} أي فصدهم ألا يسجدوا.
وهو في الوجهين مفعول له.
وقال اليزيدي وعلي بن سليمان: {أن} بدل من {أعمالهم} في موضع نصب.
وقال أبو عمرو: و{أن} في موضع خفض على البدل من السبيل.
وقيل العامل فيها {لاَ يَهْتَدُونَ} أي فهم لا يهتدون أن يسجدوا لله؛ أي لا يعلمون أن ذلك واجب عليهم.
وعلى هذا القول {لا} زائدة؛ كقوله: {مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ} [الأعراف: 12] أي ما منعك أن تسجد.
وعلى هذه القراءة فليس بموضع سجدة؛ لأن ذلك خبر عنهم بترك السجود، إما بالتزيين، أو بالصدّ، أو بمنع الاهتداء.
وقرأ الزهري والكسائي وغيرهما: {أَلاَّ يَسْجُدُواْ للَّهِ} بمعنى ألا يا هؤلاء اسجدوا؛ لأن {يا} ينادى بها الأسماء دون الأفعال.
وأنشد سيبويه:
يا لعنةُ اللَّهِ والأقوامِ كلِّهِمُ ** والصَّالحين على سِمْعَانَ من جَارِ

قال سيبويه: يا لغير اللعنة، لأنه لو كان للعنة لنصبها، لأنه كان يصير منادى مضافًا، ولكن تقديره يا هؤلاء لعنة الله والأقوام على سِمعان.
وحكى بعضهم سماعًا عن العرب: ألا يا ارحموا ألا يا اصدُقوا.